كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه: قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العابس بن علي. فإنه كان صغيرًا يوم قتل أبوه. قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصًا. والله أعلم اهـ.
واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشقى الأولين؟ قلت: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قلت: لا علم لي يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذا وأشار بيده على يافوخه فيخضب هذه من هذه يعني لحيته من دم رأسه» قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم، وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي عليه أهل التاريخ والأخبار والله تعالى أعلم أن قتل ابن ملجم كان قصاصًا لقتله عليًا رضي لله عنه.
لا لكفر ولا حرابة. وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج ولما سئل عنهم قال: من الكفر فروا. فقد ذكر المؤرخون أن عليًا رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره، وإنه إن مات قتلوه به قصاصًا، وإن حيى فهو ولي دمه. كما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم.
وذكره البيهقي في سننه، وهو المعروف عند الإخباريين. ولا شك أن ابن ملجم متأول قبحه الله ولكنه تأويل بعيد فاسد، مورد صاحبه النار، ولما ضرب عليًا رضي الله عنه قال: الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابك! ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين: أبي موسى، وعمرو بن العاص كفر بالله لأن الحكم لله وحده. لقوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} [الأنعام: 57].
ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منع فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع، ولا فتر عن الذكر. ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله، وقرأ سورة {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1] إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه. ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعًا شديدًا. فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أخاف أن أمطث فواقًا لا أذكر الله. اهـ ذكره ابن كثير وغيره.
ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم- قبحه الله- في قتله أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يومًا فأحبسه ** أوفى البرية عند الله ميزانا

وجزى الله خيرًا الشاعر الذي يقول في الرد عليه:
قل لابن ملجم الأقدار غالبة ** هدمت ويلك للإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم ** وأول الناس إسلامًا وإيمانًا

وأعلم الناس بالقرآن ثم بما ** سن الرسول لنا شرعًا وتبيانًا

صهر النَّبي ومولاه وناصره ** أضحت مناقبه نورًا وبرهانا

وكان منه على رغم الحسود له ** مكان هارون من موسى بن عمرانا

ذكرت قالته والدمع منحدر ** قفلت سبحان رب العرش سبحانا

إني لأحبسه ما كان من بشر ** يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

كعاقر الناقة الأولى التي جلبت ** على ثمود بأرض الحجر خسرانا

قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ** قبل المنية أزمانا فأزمانا

فلا عفا الله عنه ما تحمله ** ولا سقى قبر عمران بن حطانا

لقوله في شقي ظل مجترما ** ونال ما ناله ظلمًا وعدوانًا

يا ضربة من تقى ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

بل ضربة من غوى أوردته لظى ** فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا

كأنه لم يرد قصدًا بضربته ** إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا

وبما ذكرنا تعلم أن قتل الحسن بن علي رضي الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصَّغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير.
وحجة من قال أيضًا بكفره قوية: للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين. مقرونًا بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] وذلك يدل على كفره. والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة:
- اعلم أن هذا القتل ظلمًا، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة، التي هي قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] الآية، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء: اثنان منها متفق عليهما، وواحد مختلف فيه.
أم الاثنان المتفق على ثبوته بهما: فهما الإقرار بالقتل، والبينة الشاهدة عليه.
وأما الثالث المختلف فيه: فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث، وهذه أدلة ذلك كله.
أما الإقرار بالقتل- فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به. قال ابخاري في صحيحه: (باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به) حدثني إسحاق، أخبرنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك: أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين. فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان. أفلان؟ حتى سمي اليهودي. فأومأت براسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة. وقد قال همام: بحجرين.
وقد قال ابخاري أيضًا: (باب سؤال القاتل حتى يقر) ثم ساق حديث أنس هذا وقال فيه: فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة. وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل. وحديث أنس هذا أخرجه ايضًا مسلم، وأصحاب السنن، والإمام أحمد.
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب: أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه قال: إني لقاعدٌ مع النّضبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلته؟» فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. قال نعم قتلته. قال: كيف قتلته؟ قال كنت أنا وهو نختبط من شجرة. فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟» قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: «فترى قومك يشترونك» قال: أنا أهون عليهم من ذاك! فرمى إليه بنسعته وقال: «دونك صاحبك» الحديث. وفيه دلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار.
ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه. وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقر به على نفسه في سورة القيامة.
وأما البينة الشاهدة بالقتل عمدًا عدوانًا- فقد دل الدليل أيضًا على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها. قال أبو داود في سننهك حدثنا الحسن بن علب بن راشد، اخبرنا هشيم، عن أبي حيان التيمي، ثنا عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: اصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر. فانطلق أولياؤه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» قال: يا رسول الله، لم يكن ثمَّ أحد من المسلمين، وإنما هو يهود، وقد يجترؤون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم فأبوا» فوداه النَّبي صلى الله عليه وسلم من عنده اهـ.
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «لكم شاهدان على قتل صاحبكم» فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل.
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري. ومعلوم أن رجال هذا لإسناد كلهم رجال الصحيح. إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق. وقال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق رمي بشيء من التدليس.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا رح بن عبادة، قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن ابن محيصةَ الأصغر اصبح قتيلًا على أبواب خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» قال: يا رسول الله، ومن أين أصيب شاهدين، وإما أصبح قتيلًا على أبوابهم. قال: «فتحلف خمسين قسامة» قال: يا رسول الله، وكيف احلف على ما لا أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فتستحلف منهم خمسين قسامةً» فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم اليهود فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها اهـ.
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآين الكريمة بشهادة شاهدين. واقل درجات هذا الحديث الحسن. وقال فيه ابن حجر في الفتح: هذا السند صحيح حسن.
ومن الأدلة الدالة على ذلك: إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمدًا عدوانًا.
وقد قدمنا قول من قال من العلماء: إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطيعة كالمتواتر، لا عتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين.
وأكثر الأصول يقولون: إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصير قطعيًا. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد:
ولا يفيد القطع ما يوافق ال ** إجماع والبعض بقطع ينطق

وبعضهم يفيد حيث عولا ** عليه وانفه إذا ما قد خلا

مع دواعي رده من مبطل ** كما يدل خلافة علي

وقوله: وانفه إذا ما قد هلا.. إلخ- مسألة أخرى غير التي نحن بصددها. وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض.
فممن قال بوجوب القود بالقسامة: مالك وأصحابه، وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه.
وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، والأوزاعي، وإسحاق، وداود.
وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان، وأبوه مروان، وقال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى أنهم الف رجل فما اختلف منهم اثنان.
وقال ابن حجر في فتح الباري: إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت. كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية علد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبوا الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلًا عن ألف.
وممن قال بان القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود: الشافعي في أصح قوليه، وهو مذهب أبي حنيفة، وروى عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وغيرهم.
وعن معاوية: القتل بها أيضًا.
وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة، وأبي قلابة، وسلام بن عبد الله، وسليمان بن يسار، وقتادة، ومسلم بن خالد، وإبراهيم بن علية. وإليه يحو البخاري، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه.
وروي عن علد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلًا بالقسامة، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان، وسيرهم إلى الشام. قاله البخاري في صحيحه.
فإذا عرفت أقوال لهم أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة:
أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر، مخاطبًا لأولياء المقتول: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته..» الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره «فيدفع برمته» معناه: أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم. وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة.
ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريبًا. وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه: صحيح حسن. فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه: «اقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» صريح ايضًا في القود بالقسامة. وادعاة أن معنى دفعه إليهم برمته: أي ليأخذوا منه الدية- بعيد جدًا كما ترى.
ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول: «تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم..» الحديث. قالوا: فعلى أن الرواية «قاتلكم» فهي صريح في القود بالقسامة. وعلى أنها «صاحبكم» فهي محتملة لذلك احتمالًا قويًا. وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر «صاحبكم» لا حتمل أن بكون المراد به المقتول، وأن المعنى: تستحقون ديته. والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول. لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملًا، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه.
ومن أدلتهم ما جائ في رواية عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» قالوا: معنى «دم صاحبكم» قتل القاتل.